حلم موؤود
أخذت فرشاة الرسم و أحضرت ألوانها الزيتية وكل ما يلزمها للرسم.
.أمسكت بقلم الرصاص و شرعت تحرك أناملها الرقيقة في شرود كلي.خطوط ملتوية تغلب عليها نتوءات القهر و الزمن.سحنة باردة غطاها كفن أبيض و أضاع عنها معالمه وشغف الحياة.وجه أصفر شاحب،وجنتان يابستان داكنتان عينان تجتهد أن تفتحهما ،لكن قلم الرصاص أبى إلا أن يغمضهما.ثغر باهت تغالب أناملها أن تطبع عليه ابتسامة الملائكة دون جدوى،الشفتان مطبقتان على بعضهما البعض يسيطر عليهما التجهم و العبوس و الغضب و اليأس .ارتعش القلم بيدها ،ثار واهتز وما استطاعت السيطرة عليه.ألقت بالقلم في عصبية و مزقت ورقة التصوير تمزيقا واعترتها نوبة عصبية ،فراحت تبكي بكاء الأطفال و تصيح صياح الزاجرين و تضحك ضحك المجانين وفكرها شريد غائب كليا عن اللحظة الراهنة و عما يدور حولها ،لا تسكنه إلا خيالات الماضي و هواجسه
×××××××××××××
-هراء ،هراء غير ممكن ،غير صحيح قولي لي يا ابنتي أنني أهذي .اكيد ما أشاهده كذب و تلفيق.
-بلى ماما الخبر صحيح.
-لا أدري بنيتي ماذا فعلتِ و لم سولت لك نفسك فعل هذا و ما يوجعني حقا أنني أغادر قبل أن أشهد تحقيق حلمك و حلمي.
-دكتور ،الحق ماما ارجوك.
ماذا حدث لها؟كانت على مايرام و حالتها مستقرة
-لا أدري ماذا حدث لها فجأة.كانت تتابع برنامجا تلفزيا و في لحظة تغيرت سحنتها و كل ملامحها.
-آه ألم أقل ممنوع مشاهدة التلفاز ومتابعة الأخبار التي قد تعكر صفوها؟.سلمى هات الحقنة و سارعي بتجهيز غرفة العناية المركزة.
-في الحال دكتور.
اقترب الدكتور من المريضة ،فحص نبضها ،حاول إنعاشها ...
-لله ما أعطى وما أخذ.إنا لله و إنا إليه راجعون. تعازي الحارة بنيتي وألهمك الله جميل الصبر و السلوان
-لا،لا،لا غير ممكن،مستحيل منذ لحظات كانت بخير منذ لحظات كانت تخاطبني و تدعو لي .غير ممكن، لا أصدق أكيد انا أهذي...أكيد هو كابوس و سأصحو منه سريعا قل شيئا دكتور .لم انت صامت؟تكلم .تكلم،أرجوك.
××××××××××××
آه ،أمي الغالية الكل رحل و ها أنا وحيدة حبيسة الأحزان.كنت جنتي و جناني و أنسي و انيستي و نبراسي و صديقتي و حبيبتي وكل ناسي.من لي بعدك أماه يمسح دمعتي و ينسيني الآه؟من لي بعدك أماه يسألني عما أعانيه و أخشاه؟من لي بعدك أماه يؤنس وحشتي و يزيل عني كل ما ألقاه؟آه و ألف آه.وهل الدموع تعيد ماراح و تجعلني أرتاح؟هل ستسامحينني و ترضين عني في تربتك و أنا التي قتلتك؟قتلتك مرتين المرة الأولى حين لم أحقق حلمك والمرة الثانية حين كذبت عليك .ماذا يفيد الآن اللوم و جلد الذات؟وهل سيعيدك إلي مجددا؟و هل لروحك أن تُردّ؟كنت أظن أنني أضحي من اجلك ،أنني أحييك و ها أنا ذا بنفسي أميتك .ليتني ما ذهبت تلك الليلة ولا تعرفت عليه.
××××××××××××××
-كل سنة وأنت بألف خيرصديقتي الغالية ،و هذه هديتي إليك.
-أكيد انها هدية مميزة من فنانة مميزة مثلك.
فتحت سمية الهدية .الكل يفتح فاهه مذهولا من الروعة و الانبهار ،وينظر حينا إلى اللوحة مليا و حينا آخر يلتفت إلى سمية.
-ما شاء الله !الصورة ناطقة فعلا.
-واو ما أروع الصورة سمية!
-أي آيات الشكر وعبارات العرفان تعبر عن امتناني لك صديقتي الغالية؟!
-أي كلام يعبر عن موهبتك الفائقة أيتها الفنانة المتألقة؟!
-شكرا لكم ،هذا اقل واجب ،لا داعي سيدي للإطراء فأنا لازلت مبتدئة.
-لا يا صغيرتي،اسمحي لي أن أرفع لك القبعة إجلالا وتقديرا لموهبتك الفذة .فأنت فعلا رسامة عبقرية و ما شدني في الرسمة أنك لم ترسمي المظهر الخارجي فقط ،و إنما أيضا أبدعت في رسم الروح.فمن يتأمل الصورة يتضح له بما لا يدعو للشك أن صاحبتها شقية مزاجية مرحة جدا وعصبية جدا ومع ذلك تحمل قلبا ملائكيا. وهي تماما صفات سمية ابنة أختي.
-اعذريني صديقتي فداء .نسيت أن أعرفك به خالي سفيان رجل أعمال وله اهتمام بالثقافة والفنون و علاقاته كثيرة وهو شخصية متنفذة جدا .ومع ذلك هو شغوف أيما شغف بفن الرسم.وله محاولات كثيرة في هذا الإطار لكنها لم تر بعد النور لأنه مازال مبتدئا هاويا .
-تشرفت بحضرتك سيد سفيان و شكرا مرة أخرى على الاهتمام و التحفيز.
فداء ،طمئنيني ما آخر الأخبار؟كيف حال والدتك؟
-في الواقع حالتها تتعكر يوما بعد يوم و هي في حاجة ملحة إلى تدخل طبي سريع.لا بد من إجراء العملية عاجلا لاستئصال الورم قبل ان يستشري في سائر الجسد.
-وماذا فعلت؟
-وما حيلتي؟! كنت أخبرتك أن العملية الجراحية باهضة جدا وانت تدركين جيدا انه لا مال لي ولا موارد. قلبي ينفطر ألما و أنا أرى حالتها الصحية تسير نحو الأسوإ وانا عاجزة تماما عن معالجتها.
-شفاها الله بنيتي و أبعد عنها. السقم وعنك الألم.هل تسمحين لي بكلمة على انفراد ؟!
-بالتأكيد سيدي.
-كما أعلمتك سمية ابنة أختي أنا رجل أعمال و كذلك شغوف بالفن و أجيد جيدا اقتناص الفرص .وعندي الحل لإنقاذ حياة والدتك رغم أنه موجع نسبيا.
- ماهو سيدي ؟ارجوك أخبرني به
-فعلا، أريد ان أساعدك لمعالجة والدتك ،ولكن بمقابل.ما يعوزك بنيتي متوفر عندي وما يعوزني موجود عندك.
-لم أفهم.
-أنت يعوزك المال وهو متوفر لديّ،وأنا تعوزني الموهبة و التألق حتى أغدو نجما و أنت تستطيعين سد نقصي و أنا أستطيع قضاء حاجتك و إرجاع الحياة إلى والدتك...
- وكيف ذلك؟
-أوفر لك المال اللازم مقابل أن تبيعي لي لوحاتك وتتنازلي عليها لفائدتي فأنا أجهز لمعرض رسم ،لكن رسومي ليست بديعة فلو أضفت عليها لوحاتك سينجح المعرض نجاحا منقطع النظير و أحقق حلمي بأن اغدو نجما شهيرا.
-كيف ؟! هل يعقل أن أبيعك لوحاتي؟فني،جهدي،تعبي،سهر الليالي،أحلامي و ذكرياتي؟فلكل لوحة ذكرى ما.
-فكري جيدا في الأمر ولا تستعجلي في الرد .أيهما الأهم بالنسبة إليك أحلامك أم حياة والدتك؟
-ولكن أمي كانت تنتظر بشغف متى أشارك برسوماتي في معرض رسم و ترى أعمالي المقبورة النور و أصبح رسامة مشهورة .
-ستتعافى أمك أولا وبعدها تشهد نجاحاتك و نجوميتك .ثقي بي لازلت صغيرة،و أنت موهوبة و العمر أمامك طويل لتحقيق كل أمانيك
.
××××××××××××××
دخلت غرفة والدتها علها تتحسس وجودها بشم طيب رائحتها و إشباع نفسها بصورها و أشيائها و ذكرياتها.أخذت ألبوم صورها و بدأت تقلب الصور واحدة واحدة. استوقفتها صورة نادرة تجمع ثلاثتهم هي ووالدهاووالدتها.أخذتها بين ذراعيها قبلتها حضنتها وانهارت .سقطت الصورة على قفاها .استرعتها كتابة بخط رقيق متعثر لا يكاد يقرأ.أخذتها مجددا ،اجتهدت في قراءتها"زوجي الغالي صحيح أنك وافتك المنية قبل أن تحقق حلمك و تصبح رساما شهيرا .لكن ابنتك تحمل جيناتك و ورثت عنك موهبتك .ثم أنني أعمل جاهدة حتى أجعلها شغوفة أكثر بفن الرسم و أطور من مهاراتها و أصقل ملكتها.وقد سجلتها منذ الصغر في نادي رسم ...أعدك حبيبي أن تحقق ابنتنا حلمك القديم و حلمنا"
×××××××××××××
انهارت بكاء ولطما و صراخا حتى خارت كل قواها و ارتمت على فراش أمها مستسلمة يائسة تحاول أن تشبع من رائحتها الزكية .ضمت لحافها و شرائفها و وسادتها إلى صدرها ففاحت رائحة المرض والدواء و الموت.تذكرت علبة دوائها.أخذتها بين يديها تتفرسها كأنها تراها للمرة الأولى .استرجعت أمام ناظرها رحلة والدتها مع المرض و الأدوية و المستشفيات و المعاناة.وفي زاوية من زوايا الغرفة رأت أمها بردائها الأبيض الملائكي تناديها و تدعوها أن تلتحق بها لتضمها إلى صدرها و تشبعها لثما وتقبيلا كما كانت تفعل في الماضي.
وفي لحظة قهر يائسة عنّ لها خاطر شيطاني و استبدت بها فكرة ملعونة .فماذا لو...
نهلة دحمان الرقيق