الرمز... والتجلي
في نص (جذع الدهشة)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقال عن كوكبنا هذا بأنه الكوكب الحي، إذ هو زاخر بأشكال الحيوات، وتنوعها: بشرية، وحيوانية، ونباتية،وغيرها من الكوائن الحية، عليا، ودنيا..
سر الحياة - أو لغزها كما يقال - يظل عنصرَ غموض وَقَفَ، ويقف عنده العقل البشري مَلِيًا، مَليًا على إمتداد مسيرة الحياة مُسْتَكْنِهًا سِرَّه، مُتأمِّلًا فيه، محاولًا تفسيره، كما يفهمه عارضًا له في ما تسعه اللغة ومدلولاتها، بكلماتها ورموزَها..
الشجرة كواحدة من تلك الكائنات الحية كان لها حضورها الثقافي الطاغي في الأديان والمعتقدات وميثيولوجيا الشعوب.. لا كعنصرٍ واهبٍ للحياة؛ غذاءً، ودفئًا، ومأوى؛ بل كرمزٍ أيضًا لعلاقته بجنسه، وبيئته من جانب، وكرمزٍ للوجود برمته من جوانب أُخرى ..
في نصها (جذع الدهشة) تجتاز بنا الشاعرة السورية الكبيرة " د. هنادي سليمان" صوب هذا المنحنى الوجودي وأسراره ...
[[ حَبِيبِي هُنَاكَ عَلَى
جِذْعِ الدَّهْشَةِ
يَتَرَاقَصُ خِصْرُ
سَمَرِي لِيَغْوِيكَ
آخِرُ حَرْفَيْنِ بِلُغَتِي
أحِيكُ بِهِمَا ثَوْبَ الْكَلَامِ
لِأَكْتُبَكَ فِي حُضْنِ حَنِينِي
أُلْقِي بِرَأْسِي الْمُتْعَبِ
فِي حِجْرِ سُهَادِكَ ]]
حبيبي؟!
هكذا تبتدئ منادية للحبيب كتجلٍ ظاهر للمعطى الروحي مشفعة نداءها بإشارتها إلى جذع الحياة المدهشة ؛ حيث تجمعت عليه خلاصات عطاءاتها كذاتٍ إنسانية أولًا وكذاتٍ مبدعة تبلورت على شفتيها كلمات هُنَّ بناتُ أفكارها ونتاجُ سهدها وسهرها ثانيًا، وهناك غَدَون خصرًا مثيرًا يرقص رقصة الخلود، عَلَّهُ يهفو إليه تحت سطوة الغواية ..الأولى...
تُنَبِّهُهُ /تنبهنا الناصة: أن شجرتها / رمز الحياة التي برزت للوجود بالكلمة.. لم يعد مخضرًا منها غير حرفين هما جذع اللغة المدهش (ح، ب) الذان انطويا على سر الوجود ..
فصنعت منهما ثوب الكلام فاستقام مُستَعيضًا بالرمز عن جملة الحروف... مَسطورًا في حضن حنينها، وهي تتوسد حجر روحه المسهَّدة من فعل التشظي، والتخفي... لتكون هذه هي أولى لحظاتها في الإمتزاج ..
[[ أَنْفَاسُكَ عَقِيدَتِي
لَمَسَاتِي تَتَوَحَّدُ بِكَ
سَمْعِي اجْتَاحَهُ صَوْتُكَ
عَيْنَايَ أَصْبَحَتْ قَصِيدَةً
رِئَةُ لَيْلِي امْتَلَأَتْ بِكَ
لَا تَعْبَثْ بِخُصُوصِيَةِ حَوَاسِّي ]]
ويستمر التواشج الأزلي فتتوحدُ اللمساتُ وتتعالقُ الأنفاسُ وتتشانفُ الأسماعُ، وتختفي الأنَواتُ فتغدو (أنًا) واحدة " متعانقة "سمعا كله، شما كله"...
إمتلاءٌ دفاق، عينٌ نبعُها واحد، كنغم كوني لحنُه يحيك ثوبَ البدء ويسطر قصة المدى اللامتناهي ...
[[ تَسَاقَطَتْ حُرُوفِي
عِشْقًا وَ لَهِيبًا
مِنِّي قَرِيبٌ
بُعْدُكَ مُرِيبٌ
إِحْسَاسِي بِكَ عَجِيبٌ
خُلِقَ فِي قَلْبِي
تَرَبَّعَ عَلَى أَغْصَانِ عِشْقِي ]]
فَلاتَ حينَ قطافٍ تُساقط رطب حروفها وثمار جناها" عشقا ولهيبا "وإحساسا، كما كان وكما أرادته يد القدرة لحظة خلقتْ سره معجونا في القلوب.. بذرة حب يسري في كل ذرات الجسد وجنبات الروح..
[[ أَيُّهَا الْمُحْتَرِفُ اسْتَعْمِرْنِي
دَعْنِي أَتَنَفَّسُ اسْمَكَ
أَهُزُّ أَغْصَانَ الْفَجْرِ
أَتَسَاقَطُ عَلَيْكَ وَلَهًا وَ غَرَامًا
أَعْبَثُ بِتِيجَانِ قَلْبِكَ
أَمْنَحُكَ وَ تَمْنَحُنِي
حَقَّ الْحَيَاةِ ]]
في هذا الروض الأزلي / الوجود الكوني تدنو شجرة الفجر المجاورة لجذع الدهشة تبرز خصوصيات الشاعرة كذاتٍ تمتلك ناصيةَ الحرف منفصلة عن لحظات الشهود والدهشة والشَّدَهِ والتوحد والإمتزاج
تأخذ بأغصان ذياك الفجر _ لا بجذعه _(لماذا؟؟!!) وبما تمتلكه كذاتٍ مُسْتَمْنِحَةٍ فيما تَقَضَّى من زمن، هاهي الآن تَبْرُزُ وقد نضجت فكرا وعاطفة تمد يدها تهز أغصان الإنعتاق، وضوء الحرية، وككلماتها
" تتساقط وَلَهًا وغرامًا" عليه/ (ذات روحية مانحة)...
مقتنصة لحظة الإنبلاج الفجري لتزهو مختالة في بهو قلبه ، تلبس تيجانه وتهبه /ويهبها الحياة..
أوَ لَيسا كلاهما يمد الأخر بمادة الحياة وأنفاسها، وهَبّات نسائم اللذة،والبهجة ...
وهذا سيتجلى فيما يلي من سطور...
[[ يَا هَمْسَ الْغَيْمِ
وَ حُضْنَ الْمَطَرِ
يَا سُحُبًا وَ رِيَاحًا
مُضَمَّخَةً بِأَلْوَانِ وَلَهِي
يَا نَبْعًا أَغْرَقَ غُدْرَانَ لَهْفَتِي
رَوَى عَطَشَ
السِّنِين الْعِجَافِ بِعُمْرِي ]]
إذا كانت الناصة/هي: الشجرة المدهشة التي تمنح الآخر/ الحياة بكل ما تقدمه بما في ذلك الهواء الذي تتنفسه رئة ليلها.. وخيضور أوراقه... وذاك الآخر هو : الغيم بهمسه، والمطر بدفء حضنه، و السحب ببرقه ورعده، والرياح تسوقه في آنه وحينه.. يأتي نبعًا إرتوت به عِطاشُ قلبها، أطفأت تباريحَ شوقِ عجافِ سنوات الغياب...
هكذا تستمر الناصة في رسم صورة التوحد والتمازج مستخدمة لذلك جملة من التراكيب اللطيفة، وغزير الصور الفنية الرائعة، تَحملُها لغةٌ موحية، وكلماتٌ رقيقة، وجرسٌ في غاية الوقع والأخْذ ..
تتوارد تلك الصور من أول جملة أعني في عنوان النص (جذع الدهشة): هكذا تضرب الدهشة أطنابَ الثبات، تستمر مانحةً لحظات الإندهاش،وتَجَدُدِها... فتتجسد ساعات السمر تُمايِلُ خِصر سريان الأسرار (يتراقص) على (ثوب الكلام) المَحيك من حروف الكلم،وحنايا اللغة.. نُسُجَ عشق،وألوانَ شَغف...
وفي (حضن حنينها) ومسامات لحائها تتخلق فرائدُها، وتتولد بدائعُها، مستلهمة من ذاته فيوضات الوَله لـ(تتوسد حجر سهاده) فإذا(عيناها قصيدة)،وأيُّ قصيدة؟!
تتنفسها (رئة ليلها) مُدَلِّيَةً (أغصان عشق) تلامس (أغصان الفجر) تتساقط أحرفا وكلمات،تتدفقُ وَلَهًا وعشقا ... وهنا ترتقي نَشْوى بـ(همس الغيم و حضن المطر،تتوسد الحضن، وتموسقه)و(تحسس صمتها، تهسس همسها، وتترجم غنجها) ...
وهكذا تتوالى الصور الرائعة ترسم مشهد الكون، وتعزف سيمفونية الوجود (وجودهما /وجودنا) ..
حفِل النص بتعابير جديدة موحية أُشيرُ إلى (همس الغيم) و(يهسهس همسي) بما يحملُ الهمسُ من حديث خفي، يُبينُ احتفاءَ المحب بمحبوبه، بما في الهسهسة من انسياب وخفة تناسب لقاء السمو وساعات الوصل...
منحـــنى
• جاء التكرار للفظة ذاتها أو مشتقاتها في تراتبية تخدم الجملة كل في سياقها ..
نلحظ التكرار في:
أغصان /تساقط / همس /أنفاس/ ووو...
• يأتي المسند إليه ظاهرا،ومستترا بضمير أنا / أنت.. مشعرا بالحضور وألقه.. بما لا يترك مساحة لما يشتت الذهن ويذهب رهبة اللحظة...
• دلالة الإستمرارية في الزمن الحالي بحشد الفعل المضارع.. في سياق الحديث عن الماضي والحاضر والمستقبل،، بنسج شفيف،وحبك لطيف،كثوب محيك منمنم، مضمخ بألوان الوله،وأزاهير العشق...
الرمــــز والإشـــــارة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
كثيرة هي الرموز التي حفل بها النص،
• فجاءت الشجرة وما ينسب إليها كرمز رئيسي، إذ الشجرة رمز للوجود كله كما تصَوره ابنُ عربي في كتابه المسمى "شجرة الكون" إشارة إلى سدرة المتتهى وهي شجرة أيضًا..
• بحذاقة أيضًا تستلهم رمزا آخر لشجرة أخرى ، أشارت لذلك بمتلازماتها فقط (جذع، أهز، تساقط، تتساقط) نخلة الميلاد التي هزت جذعها السيدة العذراء بُعَيد وضعها للسيد المسيح .. دلالة هذا الرمز على نَبْتِ الكلمة إذ المسيح كلمة الله التي ألقاها فكانت بشرًا سويًا، وتساقط الجذع رطبا جنيا ..
• ورمزت بأغصان الفجر لشجرة ثالثة أكل منها آدم وحواء في الجنة (هي شجرة المعرفة في ميثولوجيا الكتاب المقدس أو شجرة التسليم والحيطة في قصة آدم وحواء في القرآن الكريم ... توقا للخلود..
•• وفي العموم يأتي استلهامها للشجرة واقعا محيطا ترمز لأهميتها في دورة الحياة الطبيعية في منحها الحياة غذاء وهواء،وظلا، ودفئا، وكِنانا ومأوى.... وتمنحها الطبيعة مقومات ديمومتها.. وعناصر مكوناتها...
هكذا تظافرت معطيات النص، وأدواته اللغوية، ومستوياته الدلالية والرمزية.. فخدمته أيما خدمة بما تمتلكه الناصة من إمكانات،اشتغلت على عجينة نصها ومكوناته بتريث حتى إذا اختمرت ونضجت صبتها في قالب القصيدة (الأجد)/نثرتها بوقع جرس نابع من تصريف الكلمات،وتنسيقها وإيحاءات المجاز ودلالاته مع زخم صور فنية ...
آخذك عزيزي القارئ إلى المقطع الأخير من جذع الدهشة ،لنخلة التجلي هاته: ..
[[ آمَنْتُ بِكَ رَأَيْتُكَ
بِعُيُونِ قَلْبِي
تَعَالَ وَ اُهْمِسْنِي
فِي الْغُرُوبِ
لِتُشْرِقَ فِي أُفُقِ غَرَامِي
فَأَنَا دَوَّنْتُكَ عَلَى
جَبِينِ قَدَرِي ]]
سارت بنا الشاعرة في سياقات سطورها، وثناياها لتقرر في الختم ما أثارته في البدء تشي لنا بما استقر في قرارة نفسها _ عقيدة راسخة _ رأت فيه ماضيها، وتعيش به حاضرها،وهو زادها فيما هو آت (فأنا دونتك في جبين قدري) هذا القضاء الحتمي هو مستقر الروح، وسدرة مآلاتها ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النص /القصيدة ثري إن في تعابيره أو صوره أو رموزه و دلالاته .. أُحليك قارئي الكريم إليه... في صفحتها...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعز /اليمن .. في : ١٦ / ١٢ / ٢٠٢١ م