قصة قصيرة
بقلم :محمد بن الحاج
اعترافات آخر الليل.
الجو خانق، مثقل رطوبة..
السحب الغربية تحل مغبرة تدفعها الرياح في رحلة بحث عن مستقر لها..
من بعيد ، يلوح جنيدي الأعرج يجر قدميه جرا محدثا سحابة من الغبار تتصاعد
في سماء هذا الزقاق الترب في حي فوضوي من الاحياء المنتصبة في أطراف
المدينة..
عرج هنيدي على دكان بائع الفحم، وتلك حاله كل يوم إثر عودته من العمل. وكان يود
في كل مرة ان يسمعه العم محجوب جملته التي يرغب في سماعها دوما،، حيث
يشير له
بسبابته الغليظة الموشحة بالسواد بالنفي وهو يقول بصوته الأجش: " مازالوا يكتبون..."
فتنشرح نفسه لسماع ذلك.
فالفواتير المتعاقبة وما ينفقه على الفحوصات الطبية أثقلت كاهله ونغصت عليه
حياته.
فلا المرتب كاف، ولا ما يجنيه من عمله في كشك احد الاصدقاء ،يوفر له مصاريف
البيت والسجائر..
لقد أسقط من حياته عديد االعادات ،حتى التي كان مدمنا عليها. إلا السجائر والقهوة
!فما استطاع عليهما سلطانا ! فهما بالنسبة إليه تعديل للمزاج وتخفيف من وطأة
الضغط الذي يعيشه.
لم يسلمه العم محجوب هذه المرة غير رسالة واحدة . فبدت على ملامحهه علامات
الارتياح. فهي رسالة لا كتلك الرسائل التي توتره وتجعله يفتحها بيدين مرتجفتينن
وقلب مضطرب ، حيث يكشف عن أرقامها رقما رقما ،من اليمين إلى اليسار، وكم
يزداد نبضه طرقا حين يتجاوز الفاصلة !
قلب الرسالة بين يديه، تمعن فيها في استغراب،فهو لم يتعود ان تصله مثل هذه الرسائل !
فض الظرف .أخرج منه ورقة صفراء مكتوب عليها سطر واحد وسلسلة من الارقام.
تملكته رعشة، فلعننة الارقام ما انفكت تلاحقه !
التهم الحروف والكلمات التهاما، وإذا بالدم يحتقن في وجهه المتعب ،ولم يدر كيف
أخذته قدماه إلى شوارع المدينة يسير في ثناياها تائها تنهال على رأسه التساؤلات
كالمطارق.
أعادته زخات المطر المفاجئة إلى واقعه الأليم وسالت من عينيه دموع أخفتها قطرات الغيث...
لقد ازدادت أموره تعقيدا منذ ظهر ذاك الرجل الغريب في حياته.
إنه لا يدري كيف وقع يومها في قبضة الامن.وتم اقتياده وكل من في المقهى بتهمة
تعاطي الممنوعات وهو الذي لم يجربها يوما.حيث اخذت قطرات من دمه لعرضها على التحليل . ويومها ظهر ذاك الرجل الغريب وأطلق سراحه.
ومنذ تلك اللحظة لم يغب عن ناظريه. حيث شعر جنيدي بأن عيونا تراقبه أينما حل.
ليلتقيه بعد مدة أحد رجاله،ويعرض عليه أمرا كان وقعه عليه صادما.
لم يجد هنيدي ما يقول.وظل يماطل هذا الرجل ذا الجاه والسلطة .
فغير رقم هاتفه ومقر إقامته ولكن كل ذلك لم يفده في شيء ! وهاهو الآن يجد نفسه بين قبضته من
جديد، بل أقرب إليه من حبل الوريد .
أخرج هنيدي هاتفه من جيب سرواله المهترئ.
كون الرقم ،انتتظر قليلا ثم نطق :
_ ألو... السيد عثمان !
_ أهلا جنيدي. هل بلغتك الرسالة ؟
_ اجل ! ولكن ...في الحقيقة ...
لا تتردد ،سوف أضاعف لك المبلغ.
_ ولكن....!
_ حسنا ، سأجعله ثلاقة أضعاف.
شعر جنيدي بالدم يتدفق في شرايينه تدفق الحمم.
تفصد جبينه عرقا باردا، وتاه للحظات في بيداء رؤاه . ولكنه سرعان ماعاد إلى
وعيه حين أحس وكأن إبرا تخزه في جنبيه.
_ ألو...ألو...
_ أنا معك سيد عثمان
هل بإمكانك الحضور الآن إلى الفيلا لنتحددث في الأمر .
_ أجل ! ولكن...!
ولم يكد هنيدي ينهي حديثة،حتى رست بقربه سيارة سوداء فارهة،نزل منها رجل
ضخم يرتدي كسوة سوداء انيقة وبادره قائلا : " السيد عثمان في انتظارك سيد جنيدي."
ولم يمر شهر ديسمبر، إلاوابنة السيد عثمان الوحيدة قد استعادت نضارتها وأقبلت
على الحياة وكأنها ولدت من جديد.
لقد نجحت العملية وتجاوب جسدها مع كليته....
أما جنيدي، ورغم المبلغ المغري الذي تقاضاه وازاح عنه كل ما كان يلاقيه من عنت الحياة وعذاباتها، فمازال غير مصدق أن عضوا من جسده قد انتزع منه. وظل
هاجس الخوف من أن تتعطل كليته الباقية يلازمه ويقض مضجعه.
أقام السيد عثمان حفلا دعا فيه الاهل والأقارب إكراما لجنيدي.
اقتنى جنيدي لهذه المناسبة كسوة سوداء أنيقة تليق بالاحتفال.
رحب به السيد عثمان واجلسه في صدارة قاعة الاحتفال.
كان الجو ليلتها مطيرا،وكانت قاعة الاستقبال الفسيحة في فيلا السيد عثمان يعمها الدفء .
استقر جنيدي على الاريكة ورا ح يحول بصره في كل الارجاء منبهرا بما يراه من تحف ثمينة.
يبدو انه قد حضر مبكرا. وتلك شيم البسطاء ،لا يخلفون وعدا ولا يتاخرون عن موعد.
بدا المدعوون يتوافدون أزواجا وجماعات . رجال في كسى أنيقة بدت على وجوههم علامات الرخاء، ونسوة في فساتين قصيرة ينتعلن احذية ذات كعب عال يخطرن كعارضات الازياء.
كان جنيدي يتابع ما يحدث في صمت وكم ود لو ينتهي الحفل سريعا ويعود إلى عالمه .
ولما استقر الجميع في اماكنهم، تناهى إلى سمعه وقع كعب حذاء أنثوي يخطو في دلال.
وقف الكل واشرأبت الاعناق واتجهت الانظار نحو باب قاعة الاستقبال الذي فتح على مصراعيه .
ارتجفت اوصال جنيدي، جحظت عيناه ،ودون ان يدري، عادت به الذاكرة إلى عقدين مضتا كلمح البصر.
لم يصدق ما يراه . تسارع نبضه، ولهج في نجواه مناديا : "شادية..."
لاحظ السيد عثمان ما حل بجنيدي من اضطراب، فخاطبه قائلا:"أقدم لك ابنتي الوحيدة "هيام ."
ظل جنيدي طوال الحفل يحدق في الشابة هيام وكانه يرى حبيبة الامس، ويتصفح في ذاكرته ألبوم صور لا تنتهي صفحاته. وكان السيد عثمان يلازمه ويراقب كل حركاته وسكناته خشية ان يصدر منه تصرف يفسد عليه سعادته ويفشي سرا كتمه من سنين.
وانقضى الحفل، وكان على السيد عثمان ان يوصل جنيدي إلى بيته.
اصر السيد عثمان ان يرافق جنيدي بنفسه إلى بيته .لخشيته أن يبوح للسائق بالسر .
سلكت السيارة الطريق الحزامية لاختصار المسافة.
الامطار تتهاطل خيوطا رقيقة الامر الذي اجبر السيد عثمان على السير على مهل.
كان جنيدي جالسا على يمين السيد عثمان في شرود . وكم ود لو يجد الجراة ويعبر عما يعتمل بداخله من حيرة عساه يجد إجابات لأسئلة تحيره. وإذا بالسيد عثمان يبادره بالحديث قائلا:
_ اراك تائها سيد جنيدي .فما الذي يشغل بالك ؟
استفاق جنيدي من شروده وقال :
_ كنت اعتقد أني رأيتك ذات مرة، ولكن يبدو أني مخطئ.
لست مخطئا يا جنيدي. فقد التقينا فعلا.
_ استدار جنيدي وقد شعت عيناه بريقا وقال :
_ اني متاكد من ذلك ، ولكن لم تسعفني الذاكرة !
ركن السيد عثمان السيارة على جانب الطريق ثم نظر إلى جنيدي ومد له يمناه قائلا:
_ هل تعدني بكتم السر ؟
امسك جنيدي بيد السيد عثمان وقال بصوت متهدج:
_ أعدك بذلك .
أطلق السيد عثملن من صدره زفرة عميقة وقال : " كانت ليلة من ليالي اواخر الصيف وبداية الخريف. الرياح تولول في فجاج تلك المنطقةالحدودية النائية، الأمطار تنهمر غليظة مشوبة بالحمرة محدثة عند ارتطامها بالارض قبابا ما تفتأ ان تندثر . كنت ليلتها في
مركز الحراسة بمفردي . الساعة تشير إلى الثانية صباحا ،المكان تعمه وحشة قاتلة، في تلك الاثناء ،دخل علي شاب وفتاة قد بللها المطر. كان الحدث بالنسبة لي
مفاجئا، سألتهما عن سبب حضورهما في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل، فأجابتني الفتاة وقد كانت موشحة برداء أحمر قان مسكته بيسراها عند ذقنها:
نحن في خطر ياسيدي، أسرتي تطاردني للنيل مني، لقد رفضوا زواجي من هذا الشاب، وقد قضينا أياما في الجبل هربا من قبضتهم. ثم كشفت عما كانت تحضنه
بيمناها وقالت :" وهذه ابنتنا ، لقد ولدت منذ ساعات، وأرجوك ان تحتضنها ."
آلمني وضع الرضيعة، فأسرعت إلى الغرفة لأحضر غطاء لتدثرها به، و لما عدت لم أجد لهما اثرا، لقد تركا الرضيعة على المكتب كما ولدت وغادرا المكان. خرجت
على إثرهما عساني أطمئنهما وأعدهما بأن أجد لهما حلا، ولكنها اختفيا عن الأنظار !
بقيت طوال الليل وانا أفكر في حل لهذه المولودة الجديدة. وقد ذهبت بي الافكار
إلى بعيد .وتذكرت ما ألاقيه من ألم جراء نظرات الاهل وترقبهم لولي العهد الذي لن يأتي ابدا.حينها قررت الاحتفاظ بالبنت لعلها هدية القدر! !و على ان اجتهد في
البحث عنكما . فاوصافكما انطبعت في ذاكرتي كالوشم.
اودعت الوليدة إلى بيتي القريب ،وعدت إلى موقعي وكأن شيئا لم يكن .وما كاد النهار يطل حتى تفاجأت بحادث مستراب كانت ضحيته شابة في عقدها
الثاني ،وكانت فتاتك.
شعرت بشيء في داخلي يجبرني على كتم السر. وعقدت العزم على البحث عنك .
ومرت الاعوام، وها ان القدر يضعك في طريقي من جديد لتنقذ ابنتك وتهبها الامل في الحياة بعد نفاذ كل الحلول وأوشكت هي على الهلاك.
كان جنيدي يصغي إلى حديث السيد عثمان وهو في حالة من الذهول وقد سالت على خديه دموع حارة لم يقدر على كبحها.
غادر جنيدي السيارة وسار تحت المطر.
التحق به السيد عثمان ووضع يده على كتفه.
كانت الطريق خالية من العابرين ، الاضواء الخافتة تضفي على المكان مسحة من الجمال والسكينة. ولعل جنيدي غدا ينشدها !
مسح جنيدي بكم سترته دموعه التي امتزجت بخيوط المطر ثم نظر إلى السيد عثمان وقال له : اطمئن يا سيدي،وكن واثقا بأن سرك محفوظ إلى الأبد. وهنيئا لك بابنتك، واعلم انها محظوظة جدا، وإني أريد أن أسر لك أمرا قد يفاجئك ،فأنا مثلك يا سيدي، عقيم منذ الولادة...
قال جنيدي ذلك، ثم انحدر صوب الحي الذي يقطنه وقد بدا له من اعلى التلة وكانه يستحم تحت المطر عساه يتخلص مما علق به من عنت الحياة وأدرانها...
بقلم : محمد بن الحاج
تونس